بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).
القرآن الكريم مصدر الفكر والثقافة والعقيدة، ومنهج السلوك والتربية والأخلاق، ومستودع التشريع والأحكام والمعرفة، ومقياس الخطأ والصواب، ومرجع الحيرة والخلاف.. وهو مصدر عزّة هذه الأُمّة وأساس نهضتها، فمنذ أشرقت أنوار الوحي في ربوع مكّة المكرّمة إنطلق التاريخ الإنساني مرحلة جديدة من الوعي والإيمان والثقافة والحضارة..
ولعظمة هذا القرآن كان النظر فيه عبادة، وتلاوته عبادة، وتدبّره علم ومعرفة، والعمل به هداية ونجاة..
ومن نِعَم الله سبحانه على البشريّة جمعاء أنّ هذا القرآن محفوظ من التحريف والتلاعب في نصِّه النيِّر المبارك.. والمشكلة الكُبرى في الفكر الإنساني هو الإختلاف في فهم القرآن وتفسيره، والتلاعب بدلالاته ومعانيه، وتأويله حسب الأهواء والأفكار القاصرة المنحرفة..
وقد بذل أئمّة أهل البيت (ع) والعلماء جهوداً عظيمةً لحفظ القرآن من التحريف والتزييف بعد رسول الله (ص)، فقد ألّف العلماء الآلاف من الكتب والدراسات المعنيّة بالقرآن وعلومه ومعارفه وما يرتبط به من لغة وتفسير وقراءة وتاريخ وتشريع... إلخ.
إنّما يطمح إليه المخلصون من أتباع القرآن هو أن تعود الأُمّة إلى كتاب الله المجيد، منهجاً ودستوراً للحياة، ومصدراً للوعي والفكر والثقافة، ومقياساً للخطأ والصواب، ومرجعاً لحل الخلاف وأساساً للوحدة ونبذ الفرقة.
ومؤسسة البلاغ، هذه المؤسّسة الإسلامية، التي ساهمت عبرَ ثلاثين عاماً بنشر الفكر والثقافة الإسلامية ومنها القرآنية، تضيف إلى عملها المعرفي هذا إصدار سلسلة (من ثقافة القرآن)، ولكي يكون عمل السلسلة منهجيّاً، إبتدأنا بهذا الكتاب: "مبادئ أساسيّة في فهم القرآن الكريم"، وسنواصل بحث الموضوعات الثقافية ومشاكل المجتمع وفقَ المعالجات القرآنيّة..
نسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصّلاح والسداد.. إنّه سميع مجيب.
ماذا تعني ثقافة القرآن؟
كثيراً، ما تتردّد كلمة ثقافة ومثقّف، والكثير مَن يستعملها لا يقصد بالثقافة إلا مجموع المعارف التي يحصل عليها الإنسان.
والمثقف حسب هذا الفهم هو مَن حوى قدراً من هذه المعارف أو تلك.. أو هو حامل الشهادة الدراسية، لا سيما في مستوياتها الجامعيّة.. ذلك ما يفهم معظم الناس من كلمة ثقافة ومثقّف..
ونحن نريد في هذا البحث الموجز، أن نُعرِّف بمفهوم الثقافة والمثقّف من خلال الرؤية القرآنيّة..
تُعرِّف معاجم اللّغة بكلمة (ثقف): فتضع أمامنا المعاني الآتية:
جاء في معجز مفردات الراغب الأصفهاني: "الثَّقْفُ: الحِذقُ في إدراك الشيء وفعله، ومنه استُعِيرَ المُثاقَفَة، ويُقال ثَقِفْتُ كذا إذا أدرَكتَه ببصَرِك لحِذق في النظر، ثمّ يُتجوّز به فيُستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة"[1].
وجاء في المعجم الوسيط: "ثقّف الشيء أقام المعوج منه وسوّاه، وثقّف الإنسان أدّبه وهذّبه وعلّمه".
وإذا عرفنا أنّ مفهوم الثقافة في معاجم اللّغة يعني في بعض دلالاته: الذكاء والدّقة في استقبال المعرفة والحذق والمهارة في العلم والمعرفة والصناعة، وتقويم المِعْوَج وتسويته، وإزالة الزوائد منه.. فمن هذا المنطلق يجب أن نفهم مصطلح ثقافة ومثقّف ونستعمله، فلا نُسمّي المتعلِّم مثقّفاً ما لم يسلك السلوك القويم، ويُنقّي سلوكه وشخصيّته من الانحرافات، والهبوط الأخلاقي..
ومن هذا المنطق أيضاً، فإنّ ثقافة القرآن تعني تقويم السلوك الإنساني وتهذيبه وتنظيم البنية الذاتية للإنسان على أساس القِيَم والمبادئ القرآنية، ليكون شخصية قرآنية في فكره وسلوكه وطريقة تفكيره.. وهو الإستقامة:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6).
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112).
ولذلك أيضاً ينهى عن الانحراف والشّذوذ، ويستنكر هذا السلوك المِعْوَج:
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) (الأعراف/ 44-45).
إنّ القرآن يحمل إلى البشريّة مشروعاً ثقافيّاً، وحضاريّاً بنّاءً ومغيِّراً.
إنّ ثقافة القرآن الفكرية التي يخاطب بها الإنسان هي ذات طابع وهدف علميّ.. فكلّ فكره وثقافته هو للعمل.. حتّى الثقافة العقيديّة العقليّة.. هي أساس ومنطلق للسلوك والعمل.. لهذا فهو يرفض القول دون العمل. جاء ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).
وفي مورد آخر يربط بين الإيمان النظري والعمل التطبيقي.. ويعتبر الانفصال بينهما خسارة وضياع للإنسان.
قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر).
ثمّ يوجِّه الإنسان للعمل، وتطبيق الفكر والثقافة النظرية على السلوك والمواقف، ويدعو إلى تجسيدها عملاً منظوراً وملموساً في الحياة.
نقرأ من هذه البيانات:
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105).
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم/ 39-40).
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).
وهكذا فإنّ القرآن يبني ثقافة الفكر والعمل.. وليس المثقّف إلا مَن نقّى وثقّف سلوكه وفكره من الانحراف ومساوئ الأخلاق، وحرص على الاستقامة ومكارم الأخلاق.
القرآن هو المقياس
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) (الإسراء/ 9).
القرآن مصدر الفكر والمعرفة والثقافة والتشريع، وقيم الحضارة الإنسانية.. وهو المنهج الواضح الذي يرسم للإنسان طريق الهدى والإستقامة في مجال العقيدة والعبادة والسياسة والاقتصاد والأسرة والمجتمع والسلوك الشخصي..
ومن الواضح أنّ الفكر الذي انتجه المسلمون في مجال الدراسات الفلسفيّة وقضايا العقيدة والفقه وأصوله والاجتماع والأخلاق والتصوّف والعبادة... إلخ، جاء نتيجة لعمل اجتهادي، وجهود بعضها متّهم في إخلاصه وموضوعيّته وأصالته وتعبيره عن روح الإسلام ودلالات القرآن، ويسعى لتحريف العقيدة والشريعة والفكر الإسلاميّ.. وبعضها وقع في الخطأ الاجتهادي وابتعد عن روح النص..
ونتيجة لتعدّد الاجتهادات، نشأت مذاهب وفرق عديدة في مجال العقيدة وأصول الإسلام.. أفرزها علم الكلام[2]، والفلسفة والتصوّف والعرفان والتفسير المنحرف.
كما نشأت مذاهب فقهيّة وأصوليّة وتفسيريّة للقرآن ذاته، وهكذا نشأت المذاهب والفرق والآراء العقيدية والتفسيرية والفقهيّة وغيرها، نتيجة الاجتهاد الفكري من جهة..
وبسبب ما أفرزته الاتجاهات الهدّامة من جهة أخرى التي تسرّبت إلى الفكر الإسلامي. تسرّبت من عقائد الشعوب والأُمم الأخرى، كالبوذيّة والإسرائيليّات والفكر الكنسي اليوناني والهندي والفارسي والصّيني... إلخ.
فتأثّر الفكر والثقافة الإسلامية بهذا الغزو الفكري، نتيجة للترجمة في بدايات العصر العبّاسي، ونتيجة الاختلاط مع أصحاب العقائد والديانات والأفكار والفلسفات المنحرفة..
وعندما ندرس تلك الظاهرة الفكرية في المجتمع، منذ نهايات القرن الأوّل الهجري، وحتى يومنا هذا، يجب أن تدرس الجهود العلمية التي بذلها أئمّة أهل البيت (ع).
وعلماء الدين الذين امتلكوا الأصالة الفكرية والإستقامة العقيدية والوضوح الكامل في فهم التفكير الإسلامي..
ويهمّنا أن نوضِّح أنّ هذا الاتجاه الملتزم الأصيل اعتمد ثلاثة مقاييس علميّة للتقييم والفرز بين ما هو خطأ وما هو صواب:
1- المقياس الأوّل هو القرآن الكريم.
2- المقياس الثاني هو السنّة المطّهرة.
3- المقياس الثالث هو قواعد وأحكام العقل الملتزم.
ولكي نُقيِّم ونزن ما بين أيدينا من تراث ونتاج فكري وثقافي وعقيدي وفقهي وتفسيري... إلخ، منسوب إلى الإسلام، يجب أن نتأكّد من سلامة وصحّة أصوله.. ومقاييسنا هي هذه الثلاثة.
فكلّ ما يرد علينا من فكر وثقافة نعرضه على القرآن، فإن وافقَ القرآن فهو صحيح، وإن خالفَ القرآن فهو باطل مرفوض.. وكثير من القضايا المفردة لا نجدها في السنّة الصحيحة الثابتة وفي سيرة الرسول (ص)، الأدلّة على صحة هذا الفكر وتلك المعرفة وذلك السلوك أو بطلانه وتناقضه معها.
والعقل بموازينه العلمية الصحيحة وضوابطه الملتزمة بالكتاب والسنّة هو أحد المقاييس والموازين التي نزن بها ما هو خطأ وما هو صواب في أقوالنا وأفعالنا وعموم سلوكنا.
يهمّنا هنا أن نتحدث بشيء من التفصيل عن اعتماد القرآن الكريم كأساس ومقياس وميزان للفكر والثقافة والمعرفة، ونوضِّحه كالآتي:
1- القرآن هو المقياس لصحّة العقيدة:
إنّ القاعدة الأساسية لبناء الفكر والثقافة والتشريع والحضارة في الإسلام هي العقيدة – عقيدة التّوحيد – ، وركّز القرآن على بيان العقيدة بأصولها وأسسها.. وبتفصيلات واجبة الاعتقاد فيها.. وتولّى الرسول الكريم محمّد (ص) بيان مفرداتها الأخرى التي يجب الإيمان والتصديق بها.. تحدّث القرآن عن خالق الوجود وخلقه العالم والإنسان وصفاته وأسمائه الحسنى، وعن الأنبياء وبشريّتهم، وعن الوحي والنبوّة والملائكة وعالم الآخر، وعن الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وعن الحق والباطل وعن الهدى والضلال والكفر والإيمان، وبيّن أنّ الإنسان هو الفاعل وهو المسؤول عن فعله... إلخ.
ومَن يُتابع مفردات العقيدة في القرآن الكريم، يجدها منظومة إيمانيّة متكاملة.. وما جاء في السنة إن هو إلا إيضاح وتفصيل وبيان لما جاء في هذه الأصول الإيمانية في كتاب الله.
وحين بدأت الفلسفة وعلم الكلام والجدل العقدي، ونشأت الفرق والمذاهب العقيديّة وانحراف الكثير من هذه الآراء عن أصول العقيدة ومداراتها المبنيّة في كتاب الله.
ونشأت مذاهب التجسيم والحلول والغلوّ والتفويض والجبر المنحرفة عن أصول الإيمان في كتاب الله.. تصدّى أئمّة أهل البيت (ع) وطليعة من العلماء، للدِّفاع عن أصالة العقيدة الإسلامية ونقائها القرآني.. ودعوا المسلمين إلى الإلتزام بعقيدة القرآن.. واتّخاذه مقياساً للفكر والعقيدة، فهو المقياس للخطأ والصواب، وهو مصدر المعرفة بالله تعالى وبأصول الإيمان والإسلام.. وذلك هو مذهب أئمة أهل البيت (ع) أنّ العقيدة تؤخذ من كتاب الله، وما خالفَ كتاب الله فليس من عقيدة المسلم المؤمن.. فالقرآن هو مصدره ومرجعه..
فيما يلي ندوِّن بعضاً من بيانات أئمة أهل البيت (ع) في هذا المجال:
روى محمّد بن حكيم، قال:
"كتب أبوالحسن موسى بن جعفر (ع) إلى أبي: إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكُفّوا عمّا سوى ذلك"[3].
وعن المفضل، قال:
"سألتُ أبا الحسن عن شيءٍ من الصِّفة، فقال: لا تجاوز ما في القرآن"[4].
وعن عبدالرحمان بن عتيك القصير، قال: كتبتُ على يَدَي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبدالله الصادق (ع):
"إنّ قوماً بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط[5]، فإن رأيت جعلني الله فدك أن تكتب إليَّ بالمذهب الصحيح من التّوحيد؟ فكتب إليَّ: سألتَ رحمكَ الله عن التوحيد وما ذهب إليه مَن قِبَلك، فتعالى الله الذي ليس كمثلهِ شيء، وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبِّهون الله بخلقهِ، المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزلَ به القرآن من صفات الله جلّ وعزّ، فانْفِ عن اللهِ تعالى البطلان، والتّشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو الله الثابت الموجود تعالى عمّا يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان"[6].
وفي توحيد الذات وتنزيهه عن مشابهة الخلق، قال حمزة ابن محمّد: كتبتُ إلى أبي الحسن الكاظم، أسأله عن الجسم والصورة، فكتب: "سُبحان مَن ليس كمثلهِ شيء، لا جسم، ولا صورة"[7].
2- القرآن هو المقياس للسنّة النبويّة:
فكما نعلم أنّ السنة النبوية عُرِّضت للدّسِّ ووضع الأحاديث المكذوبة ونسبتها إلى رسول الله (ص)، وبعبارة أخرى، فقد كذّب كثير من الرواة على رسول الله (ص)، بل كذّبوا عليه (ص) في حياته الشريفة، فحذّر من ذلك بقوله:
"أيّها الناس! قد كثرت عليَّ الكذّابة، فَمَنْ كذب عليَّ مُتعمِّداً، فليتبوّأ مقعده من النار"[8].
وكما كُذب على الرسول (ص)، فقد كُذب على أئمّة أهل البيت (ع)، ونُسبت إليهم أحاديث وروايات لم تصدر عنهم.. وضعها الكذّابون والمخرِّبون وأعداء الإسلام..
إنّ الأحاديث والروايات المكذوبة التي نُسبت إلى الرسول (ص) وإلى تأسيس علم الحديث وعلم الرِّجال لمعرفة الحديث الصحيح من غير الصحيح.. فإنّ كتب الحديث الموجودة بين أيدينا الآن – من كتب الشيعة أو السنة – لا يمكن اعتبار كلّ ما ورد فيها هو صحيح.. لذلك يقوم العلماء المختصون بعلم الحديث والرِّجال، لاسيّما الفقهاء، بدراسة الحديث وشخصيّة الرّاوي قبل تصديقه.. فإن ثبت وثاقة الرّاوي، وتطابق متن الحديث مع المعقول، ومع الثابت من السنّة، ومع القرآن، اُخذ به واعتُبر صحيحاً، وإن تناقض مع هذه الموازين، فهو حديث مكذوب مردود..
ويهمّنا أن نؤكِّد أنّ الرسول (ص) وأئمّة أهل البيت (ع) من بعده، أكّدوا لنا ضرورة عرض الحديث المنسوب إلى الرسول (ص) أو إلى أحد الأئمّة (ع) على القرآن.. فإن عارضَ القرآن، فهو حديث باطل ومردود، وإن وافقهُ فهو صحيح يجب تصديقه والعمل به.
وإذن فأحد أهم مقاييس معرفة الصحيح من غير الصحيح من الروايات المنسوبة إلى الرسول (ص) وأهل البيت (ع)، هو القرآن الكريم.
روى الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن الرسول الكريم (ص) قوله: "إنّ على كُلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كُلِّ صَوابٍ نوراً، فما وافقَ كتاب فخذوهُ وما خالفَ كتاب الله فدعوه"[9].
وقال الصادق (ع): "خطب النبي (ص) الناس بمنى، فقال: أيّها الناس! ما جاءكم عنِّي يُوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يُخالف كتاب الله فلم أقله"[10].
قال عبدالله بن أبي يعفور: سألتُ أبا عبدالله (ع) (الإمام الصادق)، عن اختلاف الحديث يرويه مَن نثق به ومَن لا نثق به، قال: "إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله (ص)، وإلّا فالّذي جاءكم به أولى به"[11].
وعن أيّوب بن الحرّ، قال: سمعتُ أبا عبدالله (ع) يقول: "كلّ شيءٍ مردود إلى كتاب الله والسنّة، فكلّ حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زُخْرُف"[12].
وعن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال لمحمد بن مسلم: "يا محمّد! ما جاءتكَ من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ تُوافق القرآن، فخذ بها، وما جاءتك من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ تُخالف القرآن فلا تأخذ بها"[13].
وهكذا يتّضح أنّ القرآن هو مقياس لصحّة الحديث، وأحد حماة الشّريعة من التحريف.
3- القرآن هو مقياس الثقافة والمعارف العامّة:
والقرآن كما هو مقياس للعقيدة والسنّة فإنّه مقياس للفكر والثقافة في كلِّ مجال من مجالات الحياة.. فأمامنا كمٌّ هائلٌ من انتاج المسلمين الفكري في مجال الدراسات الأخلاقية والاجتماعية وفلسفة التأريخ، وتفسير نشأة الإنسان ونظريّات أخرى حول المرأة وحقوق الإنسان والمال والسلطة السياسية... إلخ.
ونحن لسنا مُلزَمين بأيِّ نظرية أو اجتهاد لا يتطابق مع القرآن وإن تأوّل المتأوِّلون.. والقرآن يوضِّح لنا هذه الحقيقة بقوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء/ 59).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء/ 61).
وهكذا يكون المقياس هو القرآن بالرجوع إليه والإحتكام إلى مفاهيمه ومبادئه.. وبذا يُحصّن الفكر الإسلامي من الإنحراف والضّياع والاختلاط.
من أساليب البيان القرآني
كما هو واضح لدى علماء اللغّة والبلاغة والبيان، وأهل الفصاحة واللِّسان، فإنّ القرآن آية معجزة في فنِّه اللغوي، وفي أدبه وبلاغته وأسلوب خطابه، لينفذ إلى أعماق النفوس، ويسري في منافذ القلوب، ويستهوي الذوق الجمالي والحسّ الأدبي لدى المتلقِّي، ليوصل الكلمة والخطاب والفكرة والمضمون إلى المخاطب بأفضل الطرق وأيسرها..
وليعرِّف المخاطب به أنّ هذا القرآن ليس من صنع الإنسان، ولا يمكنه أن يأتي بمثله، ولو كان بعض الناس لبعضٍ ظهيراً.. بل هو معجزة إلهية، ووحي مُنزَل.. والدراسة التحليلية لأساليب الخطاب القرآني تكشف عن عدة أساليب وفنون أدبية وتعبيرية وجمالية.. نذكر في هذا التعريف الموجز بعضاً من هذه الأساليب، فهي:
1- الخطاب المباشر:
فإنّ من أوضح أساليب الخطاب القرآني هو أسلوب الحديث المباشر مع المتلقِّي وطرح الفكرة عليه كجهةٍ مباشرةٍ في الخطاب والفهم، أو إصدار الأمر والنهي إليه.. مثل قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور/ 56).
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف/ 31).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات/ 1).
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف/ 108).
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125).
(يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار/ 6-7).
2- الأسلوب القصصي:
والأسلوب الثاني من أساليب الخطاب القرآني هو أسلوب القصّة، وطرح الفكرة والمفهوم بطريقة قصصية.. تحتاج إلى الاستنتاج وفهم العبرة من مجمل القصّة.. مثل قصّة إبني آدم ونوح وموسى وعيسى ويوسف وأيّوب وذا النون وغيرهم من الأنبياء (ع).
لذا نجد القرآن الكريم يؤكِّد على الاعتبار بالقصّة والاتِّعاظ بها.. فهو يعرضها كتجربة إنسانية واجتماعية جسّدتها أحداث وسنن وقوانين اجتماعية.. قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ) (يوسف/ 111).
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف/ 3).
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/ 37).
3- الأسلوب الخبري:
ومن أساليب الموعظة والنّصح وتثقيف الإنسان هو الأسلوب الخبري.. إذ يُخبر القرآن عن وقائع وأحداث تأريخية حدثت في الماضي.. ويُحذِّر الإنسان من تكرارها، فالقرآن الكريم يوظِّف التاريخ كمعلِّم وأداة توعية وتثقيف للإنسان، فينقل لنا أخبار الأُمم السابقة.. قوم هود وصالح ولوط وشعيب وبني إسرائيل وأصحاب الأخدود وفرعون وأصحاب الرّسّ وصراع الطغاة وما لاقوا من مصير وعقاب، كما ينقل لنا جهاد الأنبياء – عليهم السلام – وصبرهم، وما لاقوا من أذى واضطهاد.
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى) (طه/ 128).
(وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (العنكبوت/ 38).
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) (إبراهيم/ 45).
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم/ 9).
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد/ 10).
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (آل عمران/ 184).
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (الرعد/ 32).
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران/ 21).
4- أسلوب المَثَل:
الأسلوب الرابع من أساليب القرآن الكريم هو استخدام المَثَل كوسيط دال على المُراد القرآني لإيصال الفكرة والمعنى وتركيزها في النفوس من خلال ربطها بصورة حسِّية معبِّرة، كقوله تعالى:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور/ 35).
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور/ 39).
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) (الرعد/ 14).
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف/ 176).
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261).
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة/ 5).
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 265).
5- أسلوب الرّمز والإيحاء:
والأسلوب الآخر من أساليب القرآن الكريم، هو أسلوب الرمز والإيحاء بالحكمة المستترة بدلاً من الخطاب الصريح المباشر..
ويذكر لنا القرآن صوراً من الرمزية وحلّ مغاليقها.. مثل رؤيا يوسف (ع)، ورؤيا إبراهيم (ع)، وقصة موسى (ع) مع الرجل الصالح التي استعصى فهمها على موسى (ع)، فقام الرجل الصالح بحلِّها، وبيان الحكمة المستترة خلفها؛ ليوحي للإنسان بأنّ كثيراً من الحوادث التي يواجهها ويراها هو ضارة، ربّما كان خلفها حكمة ومصلحة تتكشّف فيما بعد.. فعليه أن يستفيد من هذه القصة الإيحائية المربِّية.
6- أسلوب المُقارنة:
ومن الأساليب التي اتّبعها القرآن في بيانه وأدبه لإيصال الفكرة والمفهوم والتأثير في النفوس، هو أسلوب المقارنة.. كمقارنته بين العالِم والجاهل وبين المهتدي والضالّ وبين أهل الجنّة والجحيم وبين الحقيقة والوَهْم. مثال ذلك قوله تعالى:
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد/ 16).
(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 100).
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل/ 76).
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34).
7- أسلوب الحوار:
ومن الأساليب البيانية التي يوصل بها القرآن معانيه إلى المتلقِّي هو أسلوب الحوار.. مثل الحوار الإلهي مع الملائكة ومع إبليس، وحوار الأنبياء – عليهم السلام – مع أقوالهم.. ومثاله قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).
8- أسلوب الجدل والخصومة بين أهل النار:
ومن أساليب البيان القرآني هو حديث القرآن عن الجدل والخصومة بين أهل النار.. فمن خلال الخصومة والجدل والتراشق بين أهل النار، يعرض القرآن مفاهيماً وثقافةً وأفكاراً تكشف حقائق دنيوية كثيرة لهذا الإنسان المخدوع، وتوحي له بالمصير الذي آل إليه أمثاله.. ويوضِّح القرآن هذه الحقيقة بقوله:
(إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص/ 64).
وينقل لنا صوراً من هذه الخصومة والعداوة بين مَن كانوا في عالم الدنيا أصدقاء وأحبّاء.. كانوا جماعة واحدة، أو حزباً واحداً، أو ديناً واحداً.. فقد صاروا اليوم أعداء، يلعن بعضهم بعضاً، ويُحمِّله مسؤولية العذاب والضلال.. مثل ذلك قوله تعالى:
(هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ) (ص/ 59-60).
(.. بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ/ 33).
(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب/ 67-68).
بل ويتخاصم العدوّ الأكبر للإنسان مع أوليائه.. ينقل لنا القرآن صورة هذا الجدل، ويتبرّأ الشيطان من أنصاره:
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم/ 22).
بل وينقل القرآن الكريم حوار الملائكة الموكّلين بالعذاب مع المجرمين؛ ليوحي لمتلقِّي القرآن بمفاهيم ومعارف توجيهيّة، لعلّه يستوعب دلالة هذا الإيحاء.. نقرأ ذلك في قوله تعالى:
(تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 8-11).
بل وينقل لنا القرآن سؤال أهل الجنّة لأهل العذاب وجوابه. جاء ذلك في قوله تعالى:
(إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر/ 39-48).
9- أسلوب الإجابة على الأسئلة:
ويوظِّف القرآن أسلوب السؤال والجواب ليوصل المفاهيم والأحكام والمعلومات للمتلقِّي.. ضمن الحالة العمليّة للفرد والجماعة.. فقد كانت تواجه الفرد والجماعة مسائل أو مشاكل فيسألون عنها، ليجيب عليها القرآن، مثال ذلك قوله تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة/ 219).
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا...) (البقرة/ 219).
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 220).
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة/ 4).
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) (النساء/ 127).
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء/ 176).
10- مقول القول:
ومن أساليب البيان القرآن للمعاني والأفكار والمفاهيم والقِيَم والأحكام هو ما نقله إلينا القرآن من مقالة القائلين.. كالأنبياء والصالحين.. وكذا مقالة الضالِّين والمنحرفين. مثال ذلك:
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13).
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 11).
وينقل لنا القرآن مقالة يوسف التي غفرَ بها عن جرم إخوته رغم عظمه وفظاعته:
(قَالَ لا تَثْرِيبَ[14] عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف/ 92).
وهكذا ينقل لنا القرآن مقالة الصالحين موعظةً وفكراً وثقافةً وهدياً.. ويأتي التأثير في هذا النمط عن أساليب الدعوة والبيان أنّه عبر عن تجربة مُعاشة.. صدرت عن إنسانٍ آمنَ وخبرَ الحياة، وجسّد إيمانه سلوكاً وعملاً.
11- أسلوب الوصيّة[15]:
ومن أساليب البيان وإيصال المفاهيم والأحكام الثقافية في القرآن هو طريقة الوصيّة.. الوصيّة من الله سبحانه لعباده..
للوصية كما هو واضح، أثر عاطفي خاصّ في نفس المتلقِّي.. إن هو أدرك المعنى والدلالة في الوصية.
ننقل بعضاً من وصايا القرآن الكريم للإنسان، قال تعالى:
(وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان/ 14).
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 151-153).
12- أسلوب الدّعاء:
الدّعاء في الإسلام عبادة وتربية وثقافة، وتسام بالنفس الإنسانيّة نحو مكارم الأخلاق وقِيَم الحقّ والخير.. استعمل القرآن هذا الأسلوب لإيصال تلك القِيَم والمفاهيم التربوية والإيمانيّة، والإيحاء بها للداعي.. نُسجِّل هنا بعضاً من أدعية القرآن الكريم ودلالاتها السامية:
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 286).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 147).
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم/ 40).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم/ 41).
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء/ 80).
13- أسلوب وصف الغائب وما يُراد تعريفه:
ومن الأساليب التّعبيريّة التي اتّبعها القرآن، هو أسلوب وصف الغائب والتعريف به.. ليكون معروفاً لدى المُخاطب والمُتلقِّي للقرآن، وليوحي من خلال الوصف بأفكار ومفاهيم وقِيَم عقيدية وأخلاقية.. مثالها وصف الله سبحانه لنفسه وخلقه وأفعاله، ووصفه للمؤمنين ووصفه للمنافقين... إلخ. جاء ذلك في قوله تعالى:
(للَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة/ 255).
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/ 22-24).
وفي وصفه للقرآن الكريم نقرأ:
(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 1-2).
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج/ 21-22).
وفي وصفه لعباد الرحمن، نقرأ:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).
ويصف المنافقين بقوله:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت/ 10-13).
التدرّج في التشريع
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18).
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 48-50).
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106).
ويتحدّث القرآن في الآيتين الأولى والثانية عن الشّرعة والمنهاج.. وعن الأهواء والرغبات الشخصية.. الرغبات الغريزية والعاطفيّة والنفعيّة الذاتيّة والطبقيّة والعنصريّة وغيرها من الأهواء التي تحرف التّشريع عن مجراه العلمي، وعن الحقّ الذي يجب أن يقوم عليه.
لذا، فإنّ القرآن الكريم يُحذِّر من إتِّباع الهوى في التّشريع والتّقنين، والإستماع إلى مَن يريدون تعطيل أحكام الشّريعة؛ لتنفيذ أهوائهم وأغراضهم الشخصية، وتحقيق منافعهم الذاتية والأنانية.
ويدعو الرسول (ص) وهي دعوة لكلِّ المؤمنين به، والسائرين على نهجه.. يدعوه إلى تطبيق أحكام الشّريعة والعمل بما أنزل الله – سبحانه وتعالى – وتحدِّي كلّ الذين يريدون تعطيل أحكام الشريعة واستبدال قوانينها.
ويوضِّح القرآن أنّ الحُكم في كلِّ زمان ومكان حُكمان: حُكم القرآن ومنهجه في تنظيم الحياة البشرية وإدارة شؤونها.. وحكم الجاهلية ومنهجها القائم على الجهل وهوى النفس والشّهوات المنحرفة والنّفعيّة الذّاتيّة والطّبقيّة والعنصريّة... إلخ.
لذلك يرفض ويستنكر هذا الإتِّجاه بقوله:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50).
لقد حوى القرآن الأُسس العامّة للتّشريع والتّقنين في مجال السياسة والحكم والقضاء والمال والإقتصاد والسّلوك الشّخصي والصّحِّي والطهارة والعبادة وأحكام الأسرة والميراث والحرب والجهاد والعلاقات الدوليّة والأطعمة والأشربة وغيرها..
كما حوى تفصيلات هامّة في هذه التشريعات.. وقام الرسول الكريم محمد (ص) ببيان أحكام الشّريعة وتفصيلها وتطبيقات، فبنى الدّولة والمجتمع والأسرة والحياة العامة على أسس الشّريعة وقيمها وقوانينها..
بعد ذلك جاء دور الأئمّة – عليهم السلام – ثمّ الفقهاء والمجتهدون، فاتّسعت قواعد التّشريع الإسلامي وأحكامه، وشملت كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة..
وجدير ذكره أنّ المجتمع الجاهلي حين نزول القرآن كانت فيه قيم وقوانين ومعاملات ماليّة وأسريّة وسلوكيّة صحيحة، كالشّركة والدَّيْن والإجارة وغيرها من العقود والمعاملات، وكان بعضها باطلاً وفاسداً، فأقرّت وأمضت الشّريعة الإسلامية الصحيحة منها، وصحّحت أو حرّمت ما كان باطلاً؛ كالرِّبا والتزوّج من زوجات الآباء والمواريث وغيرها. فسُمِّيت هذه الأحكام إمضائيّة.
أمّا المجالات الأخرى التي لم يكن فيها أحكام وقوانين إجتماعية صحيحة، فقد شرّع لها الإسلام القوانين والأحكام، وسُمِّيت بالأحكام التأسيسيّة.
وبذا، فإنّ الأحكام الشّرعيّة تُقسم إلى قسمين:
أوّلاً: الأحكام الإمضائيّة.
ثانياً: الأحكام التأسيسيّة.
إنّ المُشرِّع هو الله – سبحانه وتعالى – وهو الذي أوحى بالشّريعة لنبيِّه الكريم (ص) ليُبيِّنها للناس ولتعمل بها البشريّة جمعاء..
وجدير ذكره هنا أنّ القرآن جاء بمشروع تغييري، يريد أن يُغيِّر مناهج الحياة المنحرفة ويبني إنساناً ومجتمعاً وثقافةً وحضارةً ودولةً على أساس عقيدة التوحيد والإيمان بالله. وعلى أساس شريعة ومنهج وقيم أخلاقيّة وإنسانيّة متكاملة البناء والأهداف..
ونظراً لضخامة هذا المشروع الحضاري الكبير.. مشروع التغيير والبناء الشامل، فإنّه يحتاج إلى هدم قواعد وأسس التفكير الجاهلي[16] المنحرف، وإسقاط أنظمته وقوانينه المعبِّرة عن عقيدته وفكره وثقافته وسلوكيّته المنحرفة، واستبدالها بمنظومة تشريعيّة وثقافيّة إسلاميّة.. إضافة إلى ما حمل الإسلام من تكاليف عباديّة، كالصّوم والصّلاة والحجّ... إلخ. لتحقيق العبوديّة لله وحده ولإكمال عمليّة التغيير الباطني والسلوكي لدى الإنسان.
ومع اعتياد النّفس البشريّة وألفتها لأنماط من السلوك وتفاعلها معها وإيمانها بها، يصعب تغييرها واقتلاعها من غير تهيئة وإعداد ومقدّمات مساعدة على ذلك.
وعندما يُراد تغيير منظومة سلوكيّة ونظام حياة بأسره، فإنّ من الحكمة أن يكون التّغيير مرحليّاً وتدريجيّاً.. وذلك يحتاج إلى زمنٍ وعملٍ تغييري متواصل.
لذا جاء القرآن مفرّقاً ومتتالي النّزول، مدّة ثلاثة وعشرين عاماً، وبشكلٍ مرحلي وتدريجي.. فلم يُحرِّم القرآن كلّما كان المجتمع يعمل به من أوّل نزوله: كالخمر والقمار والرِّبا و... إلخ.
بل اتّبع التدرّج في تحريمه، كما أنّه لم يفرض الواجبات والتكاليف من أوّل يومٍ نزل فيه الوحي، كالصّوم والزّكاة والجهاد.. بل جاءت متدرِّجة وعلى مراحل.. وخلال فترة نزوله كانت تحدث في المجتمع حوادث فيعالجها القرآن ويضع لها الحلول.. كما كانت تطرأ حوادث ومشاكل لدى الأفراد والجماعات فيسألون النبي (ص) عنها. فيُجيب عليها القرآن.. فكان للآيات التي عالجت المشاكل والأسئلة الحادثة في المجتمع أسبابٌ.. سُمِّيت بأسباب النّزول.
بدأ القرآن ومشروعه التّغييري الشّامل ببناء القاعدة الفكريّة، وهي الإيمان بالله وحده لا شريك له والتّصديق بنبوّة محمّد (ص)، وبما جاء به من وحي ورسالة، لتكون هذه القاعدة هي الأساس الذي يُبنى عليه التّشريع والفكر والسّلوك ونظام الحياة وعبادة الله وحده.
حاول المشركون التشكيك بالنّبوّة والقرآن؛ لأنّه لم ينزل جملةً واحدةً؛ لجهلهم بالحكمة الإلهيّة البالغة من وراء نزوله بشكلٍ متدرِّج، وعلى فترات.
سجّل القرآن هذا الاعتراض، وأجاب عليه بقوله:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ[17] تَرْتِيلا) (الفرقان/ 32).
القرآن يوضِّح في هذه الآية أنّه رُتِّل ترتيلاً.. أي نزل مفرّقاً متتابعاً شيئاً فشيئاً، ليقوى قلبك يا محمد (ص) على حفظه وفهمه والعمل به وتبليغه للناس بشكلٍ متدرِّج.
ويوضِّح القرآن في موضع آخر الحكمة من تنزيل القرآن مفرّقاً متدرِّجاً.. يوضِّح ذلك بقوله:
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ[18] وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106).
يوضِّح أنّ نزول القرآن مفرّقاً وبشكل متدرِّج ليبلغ للناس على مُكث.. أي على مهل، ينزل تارةً، ويتوقّف تارةً.. ليسهل حفظه وفهمه واستيعابه والعمل به.
ومن المفيد أن نوضِّح أنّ كلمة (تنزيلاً) – الواردة في الآية – تعني النزول المتدرِّج المتتابع.
ومن الأمثلة على التدرّج في التشريع، أنّ الصوم فُرضَ في شهر شعبان بعد سنة وخمسة أشهر من قدوم الرسول (ص) المدينة المنوّرة، ولم يُفرض قبل ذلك، أي فُرض بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من البعثة النّبويّة.. شُرِّرع الصوم بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).
وفي هذا العام تمّ تغيير القبلة إلى المسجد الحرام.. وكان بيت المقدس قبل ذلك هو القبلة التي يتوجّه إليه المسلمون في الصلاة.. وتمّ هذا التغيير عند نزول قوله تعالى:
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 144).
ومع فرض الصوم تمّ تشريع الزكاة، وفرض القرآن ذلك بقوله تعالى:
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ[19] عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/ 103).
ولم يأخذ الرسول (ص) الزكاة من المسلمين إلّا بعد عام من نزول الآية؛ ليصرفها في مجالاتها المحدّدة لها في القرآن.
وفي بداية الهجرة شُرِّع الجهاد ولم يكن مشرّعاً قبل ذلك.
جاء في أسباب النزول أنّ المسلمين كانوا يشكون إلى رسول الله (ص) ما يُصيبهم من أذى المشركين؛ من الضّرب والجراح والتّعذيب، فكان رسول الله (ص) يقول لهم: "اصبروا فإنِّي لم أؤمَرْ بالقتال، حتى هاجر رسول الله (ص)، فأنزل الله تعالى هذه الآية"[20].
والآية هي: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/ 39).
ومن الأمثلة على التدرُّج في التشريع هو تحريم الخمر.. فقد جاء تحريم الخمر بثلاثة مراحل.. لأنّ شرب الخمر كان مستحكماً في سلوك المجتمع الجاهلي وكان صعب التّغيير.. فكانت المرحلة الأولى هي بيان مضارّه وخطره، ولم يفرض تحريمه، ليتعامل الإنسان بوعي وإرادة ذاتية مع هذا الشّراب المدمِّر للصّحّة الجسديّة والعقليّة. فقال تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة/ 219).
فلمّا نزلت هذه الآية: كفّ الكثير من المسلمين عن شرب الخمر.. ثمّ أنزل الله سبحانه آية أخرى توجب على المصلِّي أن يقوم إلى الصلاة وهو خالٍ من السِّكر.. وذلك يعني أنّ فترات طويلة من اليوم أن يكفّ فيها عن شرب الخمر ليأتي إلى الصلاة ولا تأثيرَ للخمر عليه، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43).
ثمّ أنزل الله سبحانه آية التحريم المطلق بقوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 90).
وكان هذا التّحريم على ما جاء في أسباب النّزول في السّنة الثالثة من الهجرة، أي بعد ستّة عشر عاماً من البعثة النّبويّة.
وشرّع القرآن تحرير العبيد لإنقاذ إنسانيّتهم وتحقيق حرِّيتهم بشكل تدريجي من خلال جعله تحرير العبيد أحد الكفّارات الواجبة مثل كفّارة القتل الخطأ وكفّارة اليمين وكفّارة الظِّهار، كما شرّع لذلك نظام المكاتبة والتدبير[21]، وفرض جزءاً من أموال الزكاة لتحرير العبيد، قال تعالى:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ[22] وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60).
وأوّل دعوة لتحرير العبيد كانت في بداية نزول القرآن في مكّة المكرّمة في سورة البلد، في قوله تعالى:
(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ[23] * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد/ 11-14).
وسُمِّي هذا التحرير "فكّ الرّقبة" لأنّها تفكّ العبد من قيود العبوديّة.
وفُرِضَ الحجّ في السّنة السّادسة من الهجرة.. وحين توجّه الرسول (ص) لأداء هذه الفريضة، صدّه المشركون عن دخول مكّة.. فدخل مكّة في السّنة السّابعة من الهجرة، بعد صُلح الحديبيّة الذي جرى بين النبي (ص) وبين المشركين، فقضى عمرته (ص) في تلك السّنة.. وفي السّنة التّاسعة من الهجرة، حجّ هو (ص) ومعه عشرات الآلاف من المسلمين.
وفُرِضَت عقوبة الزِّنا والقذف كما تذكر الرّوايات في السّنة السّادسة من الهجرة، وشُرِّعت هذه العقوبة بقوله تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا[24] كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2).
وفُرِضَ الحجاب كما تذكر بعض الرّوايات في ذي القعدة، في السّنة الخامسة من الهجرة. جاء ذلك في التّشريع في قوله تعالى:
(.. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا[25] فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ...) (الأحزاب/ 53).
وحُرِّم الرِّبا في السنة الثامنة من الهجرة، بعد غزوة الطّائف وإسلام ثقيف. جاء هذا التّحريم في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279).
العبرة من منهج التدرّج في التّغيير:
إنّ هذه المنهجيّة، منهجيّة التدرّج والمرحليّة في التغيير تضع أسساً علميّة وشرعيّة بين أيدي الدّعاة والعاملين على تغيير المجتمع، من أوضاعه غير الإسلامية إلى أوضاع تقوم على أساس الإسلام، في الفكر والثّقافة والتّشريع والقِيَم والأعراف والعادات..
فإنّ مجتمعات المسلمين الحاضرة تحمل في أبعادها المختلفة أوضاعاً غير إسلامية.. ولكي يتمّ استئصال تلك الظواهر وتغييرها واستبدالها بأوضاع إسلاميّة، فهم في حاجة إلى أن يتبعوا منهج القرآن في سنّة التدرّج، رغم إنّ المسلمين جميعاً يؤمنون بالإسلام.. غير أنّ الغالبية منهم يعوزها فهم الإسلام ووعي مناهجه.
والمشكلة الأخرى هي عدم العمل بالإسلام وتطبيقه شريعةً ونظاماً ومنهج حياة للفرد والمجتمع والدولة، لذا فإنّ عمل الدعاة إلى الإسلام يتركّز في التوعية والتثقيف وتعميق الوعي الإسلامي.. وتبصير المسلمين بدينهم، متّخذين من الرسول الكريم محمّد (ص)، أسوة وقدوة.. ومن القرآن دليلاً وهادياً.
إنّ التغيير كما في ثقافة القرآن ومنهجه، يبدأ من أعماق الذات الإنسانية، فما لم تتغيّر الأفكار والثقافة والعواطف والأخلاق، لا يتغيّر الوضع الإجتماعي:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).
جدير ذكره، أنّ الأوضاع الاجتماعيّة الخارجيّة لها آثارها وبصماتها في سلوك الأفراد وثقافتهم، لذا فإنّ إصلاح البيئة الاجتماعيّة وحلّ مشاكل الإنسان الماديّة والمعاشيّة هي إحدى أهم الوسائل في إصلاح المجتمع إذا قام الإصلاح المادي على أساس قويم من الإصلاح الفكري والسّلوكي.
تدبر القرآن ووعي معانيه
(أفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن أمْ على قُلوبٍ أقفالُها) (محمد/ 24).
(قَد بَيَّنّا لَكُم الآياتِ لَعَلّكُم تَعقِلُون) (الحديد/ 17).
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
إنّ قضية وعي القرآن وفهمه واستيعاب دلالاته ومعانيه، هي قضية من أهم قضايا التعامل مع القرآن وفهم الرِّسالة، وبناء السلوك والحياة وإكتشاف آفاقه ومحتوى أعماقه البعيدة. وعندما يغيب دور العقل، ويسيطر الجمود والتحجّر، وتغلق العقول، فلا يمكن إكتشاف معاني القرآن وفهم محتواه، لذا يذمّ القرآن أولئك الذين وضعوا الأقفال على عقولهم، ولم يفكِّروا في دلالات الآيات ولم يتدبّروا معانيها، جاء ذلك في قوله تعالى: (أفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن أمْ على قُلوبٍ أقفالُها).
ومَن يستقرئ القرآن، يرى أنّ خطابه موجّه للعقل، دعوة للتفكّر والفهم والوعي.. وإستخدام العقل في فهم القرآن وإكتشاف معانيه.. هو ما حثّ عليه القرآن ودعا إليه في العديد من آياته؛ مثل:
(قَد بَيَّنّا لَكُم الآياتِ لَعَلّكُم تَعقِلُون) (الحديد/17).
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/24).
حين نزل قوله تعالى:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).
حين نزلت هذه الآية، قرأها رسول الله (ص) على المسلمين، قال: "ويلٌ لِمَن لاكها بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها".
وإذاً، لكي نفهم القرآن، لابدّ من أن نتعامل بالعقل والوعي والتدبّر، ويُحذِّر القرآن عن قفل العقل وغفلته عمّا حمل هذا الكتاب للناس من حقائق وعلوم ومعارف وهداية وصلاح وتشريع وقيم إنسانيّة سامية، ويتحدّث القرآن عن غياب التدبّر والوعي العملي وفهم الدلائل والآيات الطبيعية والحياتية والإجتماعية حتى كأنّ الإنسان لم يرها لأنّه لا يُفكِّر فيها، ولا يستوعب الدروس والعِبَر منها، لذلك يُندِّد القرآن بأولئك المعرضين الغافلين.
قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف/ 105).
إنّ تلاوة القرآن الكريم من غير تدبّر ولا وعي، لا تُعطي أهدافها العلميّة والتربوية والإيمانيّة.
لنقرأ كلّ آيات تحريم الخمر كوحدة موضوعية ولنتدبّر فيها، ولندرس الأضرار الصحية والأمنية والاجتماعية والمالية... إلخ، لنعرف لماذا حرّم الله الخمر.
لنقرأ كل آيات الرِّبا في وحدتها الموضوعية ولنتدبّر فيها؛ ولندرس الآيات المدمِّرة للرِّبا وإنعكاساتها على الإقتصاد والحياة المعاشيّة، ولنعرف لماذا حرّم الله الرِّبا.
لنقرأ كلّ الآيات التي تحدّثت عن المال كوحدة موضوعية، لنعرف فلسفة المال وقيمة المال، وكيف نحصل على المال، وكيف ننفقه، ولنعي أخطار تجميد المال واكتنازه وأخطار الفقر والحرمان على الحياة بأسرها الاجتماعية والسياسية والسلوكية والأمنية..
لنقرأ كل الآيات التي تحدّثت عن الإسراف والتبذير، ونتأمّل في أخطارها وأضرارها، لندرك الحكمة من التحريم..
لنقرأ كل الآيات التي تحدّثت عن المرأة والزواج والأسرة والعلاقة الزوجية بوعي وتحليل وفهم، ولنعرف مكانة المرأة وأهمية الأسرة وحقوق الزوج والأبناء، ولنعي الحكمة في كل تشريع ومفهوم ثبّته القرآن في هذا المجال.
لنقرأ الآيات التي تحدّثت عن صفات الله وأسمائه الحُسنى.. ولنعي تجلِّياتها في الشريعة وفي تعامل الخالق مع الخلق وعلاقة المخلوقات بخالقها من خلال وعي دلالات تلك الصفات والأسماء الحُسنى.. لنعرف أنّنا نتعامل مع ربٍّ غفورٍ رحيم، عادل حكيم ودودٍ عليم، قادر على ما يُريد. عدوّ للظلم والظالمين، منتقم من الطُّغاة، فيتحدد موقفنا من الظلم والإستكبار والطغيان ونتعامل مع الخلق بالعفو والرحمة والدفاع عن المظلومين والمستضعفين.
وهكذا نتعامل مع كلّ آية وكلّ مجموعة من الآيات التي تحدّثت عن موضوع موحّد، ولعني مجمل التنزيل وأهداف القرآن ومشروعه المنقذ الرائد على هذه الأرض.
فيما يلي نستعرض أمثلة من تدبّر القرآن العقلي ووعيه وإستنتاج الأحكام والمفاهيم والقيم منه، كما وردت في بيان الرسول الكريم محمد (ص) وأئمة المسلمين.
رُوي عنه (ص) قوله: "إنّ الله – عزّوجلّ – كتبَ عليكُم الإحسان في كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليريح ذبيحته"[26].
إنّ الرسول الكريم (ص) بقوله هذا ينهي عن الإيذاء والتعذيب والإساءة حتى في قتل المستحق للقتل وفي الحروب أو ذبح الحيوان، فإنّ ذلك مخالف لخُلق الرحمة والإحسان التي جاء بها القرآن..
إنّ هذا البيان النبوي الكريم هو بيان لما جاء في كتاب الله تعالى من الدعوة إلى مطلق الإحسان، مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ...) (النحل/ 90).
ومثل خطابه تعالى للنبي موسى (ع): (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف/ 145).
وهذا البيان هو دعوة للتدبّر في كتاب الله وتوجيه العقل وتحريكه للتعامل مع القرآن، وإستنتاج الأحكام والمفاهيم وإستنباطها من أعماق محتواه وإرشادات دلالاته.
وعلى هذا المنهاج جرى أئمّة أهل البيت (ع) في فهم القرآن والأخذ منه، فإنّهم يؤكِّدون دوماً أنّ ما يفتون به هو صادر من كتاب الله وسنة نبيّنا الكريم محمد (ص).
روى أبان بن تغلب، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، أنّه قال: "قال: سمعتُ علي بن الحسين (ع) وهو يقول لغلمانه: لا تذبحوا حتى يطلع الفجر، فإنّ الله عزّوجلّ جعل الليل سكناً لكل شيءٍ، قال: قلت جُعلت فداك؟ فإن خفت؟ قال: إن كنت تخاف الموت[27] فاذبح"[28]
وهكذا يسير الإمامان الصادق وزين العابدين (ع) في بيان هذا الحكم، وهو النهي عن ذبح الحيوان ليلاً إلاّ إذا خيفَ عليه من الموت، لأيِّ سبب كان، فهما يؤصِّلان ويستندان في ذلك إلى قوله تعالى:
(فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 96).
فأّس الفقهاء على ذلك الحكم بكراهية اصطياد الطائر وأخذ بيضه ليلاً، فإنّ الليل خلقه الله سبحانه ليكون أمناً وراحة وسكناً للخلائق كلّها..
وبفهم هذه الآية، ينهى الإسلام عن ذبح الحيوان واصطياد الطائر ليلاً، فيحفظ للحيوان حقّه، ويتعامل الإمام الصادق بمنهج الوعي والتدبّر ذاته مع القرآن، فيكشف لنا عن قِيَم ومفاهيم أخلاقية ترتبط بأحكام القرض والدَّيْن، فقد رُوي عنه حوار بينه وبين أحد أصحابه الذي أخطأ الفهم في المطالبة بدَينِه فأرجعه الإمام إلى دلالات، قوله تعالى: (.. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (الرعد/ 21).
وفسّرها له وطبّقها على السلوك العملي.. جاء ذلك في نصِّ الرّواية التي استدلّ بها المفسِّرون على تفسير قوله تعالى: (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ..)
فقد ورد ما نصّه: "روى حمّاد بن عثمان، عن أبي عبدالله (ع)، أنّه قال لرجلٍ يا فلان! ما لكَ ولأخيكَ، قلت: جُعلت فداك، لي عليه شيء، فاستقصيت حقِّي عنه، قال أبو عبدالله (ع): أخبرني عن قول الله سبحانه: (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ). أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم، لا والله، ولكن خافوا الإستقصاء والمداقّة"[29].
وهكذا يُفسِّر الإمام الصادق (ع) (سُوءَ الْحِسَابِ)، بأنّه المداقّة في الحساب، وأنّ الله مُنزّه عن الظّلم وسوء الحساب، ففي التفسير نجد مفهوماً عقيديّاً مهماً: وهو تنزيل الباري جلّ ثناؤه عن كلِّ ما لا يليق به، ومنه سوء التعامل مع العباد، ونجد مفهوماً أخلاقيّاً مؤسّساً على هذه الآية، وهو النهي عن المداقّة في المطالبة بالحقوق، والتعامل بيُسر وتسامح، ويُستفاد من ذلك البيان أيضاً، النهي عن التعسّف في إستعمال الحق، فإنّ ذلك الرجل تعسّف في إستعمال حقّه في المطالبة باسترداد ماله.
وهكذا يتجاوز هذا المنهج حالة التحجّر والجمود ويدعو إلى إستعمال العقل في الفهم والإستنباط والتطبيق على المصاديق الواسعة، وعدم حصر الدّلالة القرآنية في دائرة ضيِّقة.
فقد رأينا توسّع مفهوم "جعل الليل سكناً"، ومفهوم "إنّ الله يأمر بالإحسان"، ومفهوم "يخافون سوف الحساب" في التطبيق السلوكي للإنسان والتعامل مع الإنسان والطير والحيوان.. وذلك من تدبّر القرآن، وفهم معناه.
المصادر الأساسية للتّفسير
يُعرِّف السيد أبو القاسم الخوئي – رحمه الله – أحد أبرز أساطين الفقه والإجتهاد.. يعرِّف التفسير بقوله: "التفسير هو إيضاح مُراد الله تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والإستحسان، وعلى شيء لم يثبت أنه حجّة من طريق العقل أو طريق الشرع؛ للنّهي عن اتِّباع الظّنّ، وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه[30].
إنّ مسألة فهم النص والدّلالة اللّغويّة، هي من المسائل الأساسية والكبرى في تشكيل الفكر ومنهج التفكير والثّقافة والسّلوك والبناء الاجتماعي والسياسي، وغير ذلك من عناصر المنظومة المعرفيّة والسّلوكيّة لدى الإنسان.
فالنصّ هو الإطار المجسِّد للفكر والمعنى.. وهو الوسيط في نقلهما من صاحب النصّ (المتحدِّث والكاتب) إلى المتلقِّي.. وعندما يُخطئ المتلقِّي والمفسِّر في فهم النصّ.. فمعنى ذلك أنّ ما تكوّن لديه من فهم لا يُعبِّر عن إرادة صاحب النص.. بل يُعبِّر عن فهمه الخاطئ.. ومن هنا نشأت المشكلة في فهم القرآن والمفاهيم والعقائد التي لم تكن مقصودة للقرآن.
ولمّا كان القرآن هو الأساس والمنطلق الذي يُبنى عليه الفكر والثقافة والسلوك والحضارة ونظم الحياة ومنهج التفكير في الإسلام. فقد انعكس الفهم الخاطئ للقرآن في منظومة التفكير والسلوك والعلاقات لدى المسلمين.
إنّ تثبيت المرتكزات الأساسيّة لمنهج الفهم والتفسير وبيان الضّوابط والنظم لتحليل النصّ القرآني، هي من أسس تصحيح الفهم والتفسير، وهي المنطلق لتقويم التفكير والإعتقاد والسلوك.
ولقد نشأت مذاهب وآراء تفسيريّة منحرفة وخطرة على الفكر والثّقافة والبناء الاجتماعي لدى المسلمين.. مثل عقائد الجبر والتجسيم والغلوّ والإرهاب والتحجُّر وتكفير المسلمين، وتحميل القرآن آراء المذاهب والفرق المنحرفة وتنسيبها إلى القرآن.. لذا فإنّ القرآن فضح أولئك المحرِّفين لمعانيه ودلالاته، ووصفهم بأنّهم منحرفون.. في قلوبهم زيغ، وحذّر منهم، ليحصِّن الإنسان المتعامل مع القرآن من فهم وتفسير أولئك المحرِّفين المخرِّبين.
نقرأ من هذا البيان قوله تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (آل عمران/ 7).
وهكذا يُجسِّد القرآن أمامنا صورة التحريف، تحريف المعنى والدّلالة وخطورتها.. أما النصّ القرآني فقد حفظه الله من التحريف، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).
وتعاهده المسلمون جيلاً بعد جيل بالحفظ والعناية كما نقلوه عن نبيِّهم الكريم محمّد (ص).. ويوضِّح لنا القرآن خطورة هذه المؤامرة.. مؤامرة إخضاع فهم النصّ والمعنى والدّلالة القرآنيّة للأهواء الذّاتيّة..
يوضِّح القرآن الكريم ذلك بقوله:
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) (آل عمران/ 7).
لذا، يُحذِّر القرآن من تحريف المعنى والدّلالة والتأويل المنحرف، وإدخال الأهواء والميول الذاتية والفهم غير الموضوعي في التفسير والتأويل.. كما أشارت الآية إلى ذلك.
وبالإضافة إلى مشكلة التّحريف المقصود.. واندساس الذاتيّة، وغياب الموضوعيّة في فهم الدّلالة والمعنى القرآني.. فإنّ الثقافة تواجه مشكلة أخرى هي مشكلة الجهل والتعامل المتخلِّف مع النصّ القرآني؛ لذا حدّد القرآن مراجع الفهم والتّفسير؛ لئلّا يكون القرآن عرضة لعبث الجهال وأدعياء العلم، ولتُصان دلالات القرآن ومعانيه، ويتمّ اكتشاف محتواه الحق عبر العصور والأجيال.. فإنّ آيات القرآن خزائن لا ينضب عطاؤها، ولا يجف رواؤها، وفي كلِّ جيل يكتشف المفسِّر والمتعامل مع القرآن حاجة الإنسان ومعالجة ظروف عصره.
رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) قوله: "آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها"[31].
ثبّت القرآن الأسس والمصادر التي يجب الرّجوع إليها في فهم القرآن واكتشاف المعنى والدلالة، وبذا وضع الأسس العلميّة لمنهج التفسير والتأويل وفهم القرآن..
وبالإستقراء نجدها كالآتي:
1- اللّغة:
الرّجوع إلى لغة العرب في فهم القرآن ومعرفة دلالاته من خلال معرفة معاني ألفاظه، وقوانين التّفكير اللّغوي وبنية السِّياق والتّراكيب والقواعد اللّغويّة وأساليب الخطاب العربي.. فإنّ معرفة لغة القرآن وما تضمّنته المفردة القرآنيّة من دلالة وضعيّة واستعماليّة، وصياغة التّراكيب والسياقات القرآنيّة، تكشف لنا آفاقاً واسعةً من الفهم ووضوح الدّلالة في المجالات الفكريّة والنّفسيّة والتّشريعيّة والسّلوكيّة... إلخ.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم/ 4).
وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف/ 2).
وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف/ 3).
وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء/ 193-195).
وبهذه الآيات وبآيات أخرى، يوضِّح القرآن أنّ لغة العرب هي أداة أساسيّة في فهم القرآن وتفسيره واكتشاف معانيه.
2- تفسير القرآن بالقرآن:
والقرآن كما يقول العلماء يُفسِّر بعضه بعضاً.. فالمُحْكَم يُفسِّر المُتشابَه، والخاصّ يُفسِّر العام، والمقيَّد يفسِّر المُطْلَق، والمُبَيِّن يفسِّر المُجمَل.
والقرآن يوضح أنّ الله سبحانه يبيِّن ويفسِّر غوامض القرآن، ليكون ميسّر الفهم..
قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة/ 19).
وقال: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان/ 33).
ومن الأمثلة الدّالّة على ذلك – كما ورد في التّفاسير – هو الآتي:
(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة/ 255).
فإنّ كلمة (القيّوم) مُفسِّرة بما بعدها: (لا تأخذه سِنَةٌ ولا نَوْم)، فالقيّوم هو الذي لا ينام ولا يغفل ولا تأخذه غفوة.
(إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج/ 19-21).
فإن كلمة (هلوعاً) مفسّرة بما بعدها: إنّ الإنسان إذا مسّه شرّ جزع، وإذا حصل على خير منعه عن الآخرين.
ومثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام/ 159).
مفسّرة بقوله تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم/ 31-32).
فالآية توضِّح أنّ المقصود بالذين فرّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً وأحزاباً في دينهم هم المشركون.
ومثل تفسير الآيات التي تُعرِّف بصفات الخالق.. كقوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) (البقرة/ 255)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه/ 5)، (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر/ 67)، (غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (الفتح/ 6).
فإنّها مفسّرة بالآية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11)، وبالآية: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 4).
فيجب الالتزام في تفسير الصِّفات الإلهيّة الواردة في القرآن بتنزيه الله عن صفات المخلوقين، كالتجسيم والحلول والإنفعال وغيرها.
وهكذا تكون بعض آيات القرآن مرجعاً لتفسير آيات أخرى، وبيان المقصود فيها.
3- السنّة المُطهّرة:
الرّجوع إلى الرسول (ص) في فهم القرآن الكريم وتفسيره، هو رجوع إلى السنّة بكل تفاصيلها: (القول والفعل والتّقرير).
من الواضح أنّ المرجع الأوّل للفهم والتّفسير فيما يشكل على النّاس فهمه هو الرّسول الكريم محمّد (ص)، فهو حامل الرّسالة والمخاطب بالوحي والمكلّف بالبيان.. لذا يرجعنا القرآن الكريم إلى الرسول (ص) في فهم القرآن وتأويله، ويجعل بيان القرآن وتفسيره من مهام الرّسول (ص).
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم/ 4).
(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء/ 59).
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) (النساء/ 83).
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 43-44).
والمرجع في التّفسير بعد الرّسول (ص) هم أهل بيت النّبيّ (ص) وطليعة من الصّحابة الذين فسّروا القرآن الكريم، أمثال: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وغيرهم.
وينبغي التوضيح هنا أنّ المفسِّر يواجه مشكلة في اعتماد الرّوايات في التفسير، هي الرّوايات الضّعيفة والمدسوسة والمكذوبة.. لذا يجب التأكّد من صحّة الرّوايات المنسوبة إلى الرّسول (ص) أو أهل البيت (ع) قبل اعتمادها في التّفسير.
4- العقل:
تفسير القرآن بالتأمّل والاستنتاج العقلي، على أن يتحرّك العقل في عمليّة الفهم والاستنباط واكتشاف المعنى وفق قوانين حركة العقل العلمي.. وضمن المبادئ والأسس الثلاثة الآنف ذكرها.. ومَن يتأمّل في العشرات من الآيات، يجد أن جهة الخطاب الأساسيّة التي يخاطبها القرآن هي العقل.. لذا فهو يُكرِّر دعوته إلى العقل لأن يتأمّل ويُفكِّر ويفهم ويعي ويفقه ويستنبط ليكتشف الحقيقة.
ولذا أيضاً نراه يذمّ الذين صادروا عقولهم، وأقفلوا تفكيرهم ووعيهم..
قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24).
وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف/ 105).
وللمزيد من الإيضاح، فلسنتعرض عدداً من الآيات المخاطبة للعقل والدّاعية إلى تظيفه وإطلاق حركة التّفكير والإستنتاج.
قال تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام/ 65).
(كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية/ 13).
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).
(وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم/ 24).
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
وهكذا يُثبِّت لنا القرآن منهجه لفهم محتواه، وبيان فكره وتشريعه وهديه، والكشف عن دلالاته ومضامينه، وتفسير غوامضه وإيحاءات سياقاته، وتأويل ما استتر وراء حجب اللّفظ والرّمزيّة في أعماق آياته.
نظرة في منهج الطّبرسي:
ينبغي أن نذكر أنّ المفسِّر الكبير الطبرسي قد اتّبع في تفسيره منهجاً منظّماً في التفسير، وضّح فيه أهمِّية التّمييز بين المشتركات اللّفظيّة ودلالة المُترادف في بيان المعنى، وعلاقة المعنى اللّفظي والإعراب والقراءة والسِّياق، الذي سمّاهُ بالنّظم والحقيقة والمجاز وسبب النزول.. بيّن علاقة كلّ هذه القضايا بالتفسير، وطبّقها في مشروعه التفسيري الخالد (مجمع البيان).. ولأهمِّية هذه المنهجية، رأينا من المفيد الاستفادة منها.
المشترك في ألفاظ القرآن
من المباحث الأساسية في فهم القرآن الكريم وتفسيره، هو مبحث (المشترك اللّفظي)..
والمشترك في اللّغة، كما عرّفه ابن فارس بقوله هو: "أن تكون اللّفظة محتملة لمعنيين أو أكثر"[32].
وعرّفه السّيوطي بقوله: "اللّفظ الواحد الدّالّ على معنيين فأكثر، دلالة على السّواء عند أهل تلك اللّغة"[33].
وعرّفه الشهيد الفقيه السيِّد محمدباقر الصدر بقوله: "لاشكّ في وجود إمكان الإشتراك، وهو وجود معنيين للفظ واحد"[34].
وقال الطّبرسي المفسِّر اللغوي الكبير في تفسيره مجمع البيان: "وإن كان اللّفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر...".
وأمثلة المشترك في لغة العرب كثيرة، استعمل القرآن الكلمة الواحدة منها في معانٍ عديدة، مثل: الدِّين، الأُمّة، الرّبّ، الإمام، القُرء، الرّوح... إلخ، ولنشرح بعضاً منها للبيان:
فكلمة (دين): استعملها القرآن إسماً للرِّسالات الإلهية، كقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85).
كما استعملها إسماً لما يتعبّد به المشركون والكافرون: (لكُم دينكُم وَليَ دِين).
واستعملها بمعنى الجزاء.. قال تعالى: (مالكِ يومِ الدِّين).
واستعملها بمعنى الطّاعة، كقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء/ 125).
واستعمل كلمة (الأُمّة) بمعانٍ عديدة: استعملها بمعنى الجماعة، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104).
واستعملها بمعنى (المدّة من الزمن)، فقال تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (يوسف/ 45).. أي بعد حينٍ من الزمن.
واستعملها بمعنى الدِّين.. فقال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).. أي وجدنا آباءنا على دينٍ فاتّبعنا دينهم..
واستعمل كلمة (إمام)، بمعنى المقتدى به الذي يتبعه النّاس ويقودهم، فقال تعالى لإبراهيم (ع): (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124).
واستعملها بمعنى الكتاب، لأنّه يرجع إليه ويُقتدى به، فقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس/ 12)، أي في كتابٍ مبين..
ومن الأسباب الأساسية في الاختلاف في التّفسير واستنباط الأحكام هو المشترك اللّفظي.. مثال ذلك هو الاختلاف في تفسير كلمة: (القُرْء).. قال الراغب الأصفهاني في معجم مفردات ألفاظ القرآن: (القُرءُ في الحقيقة إسم للدخول في الحيض عن طُهْرٍ، ولما كان إسماً جامعاً للأمرين: الطُّهْر والحَيْض المتعقِّب به، أطلق على كلِّ واحد منهما، لأنّ كلّ إسم موضوع لمعنين معاً يُطلق على كلِّ واحدٍ منهما إذا انفرد". واستعمل القرآن الكريم كلمة (قُرء) في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ...) (البقرة/ 228).
وإذن، فكلمة (قُرْء) اسم مشترك بين الحيض والطُّهر من الحيض.
وبما أنّ هذه الآية تشريعيّة، تتعلق بالطّلاق والعدّة والنّفقة إلخ، ترتّب على الاختلاف في فهم المقصود من هذا المشترك اللّفظي (القُرء)، أحكام تتعلّق بالطّلاق والعدّة وما يرتبط به.
ومن المفيد أن ننقل تفسيراً يوضِّح اختلاف الآراء في فهم كلمة (قُرء) الواردة في هذه الآية، وما يترتّب على هذا الاختلاف لتكون مثالاً للمشترك اللّفظي.
قال المفسِّر الكبير الطّبرسي في تفسيره مجمع البيان: "والمُراد بالقروء: الأطهار، عندنا، وبه قال زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ومالك والشّافعي وأهل المدينة...".
ويذهب أبو حنيفة وغيرهم إلى أنّ المقصود هو (الحيض).
كيف نميِّز بين المشتركات اللّفظية؟
وإذاً، لكي يتّضح المعنى المُراد للآية، يجب أن نفهم معنى الكلمة المفردة المستعملة في هذه الآية.. وعندما تكون هذه الكلمة من المشترك اللّفظي، أي لها أكثر من معنى في لغة العرب، وجبَ أن يكون لدينا قواعد وضوابط للتمييز بين المعاني؛ لنعرف المعنى المقصود من بين معاني الكلمة المتعدِّدة..
ولذلك اهتمّ علماء أصول الفقه بدراسة المشترك اللّفظي وعلماء التّفسير، ووضعوا الأسس والقواعد والضّوابط التي نعتمدها في معرفة المعنى المُراد منها دون غيره من المعاني..
ويذهب علماء أصول الفقه إلى أنّ اللّفظ المشترك حينما يرد في الكلام يُعتبر من المجملات التي لا يرجح فيها معنى على معنى آخر إلا إذا وجدت القرينة التي توضِّح لنا أنّ المتكلم أراد هذا المعنى ولم يُرِد غيره من المعاني المشتركة، فنميِّزها إذا بالقرينة اللّفظية أو الحالية، أما إذا لم توجد هذه القرينة فيبقى اللفظ مجملاً غير محدّد بمعنى خاص من بين معانيه الأخرى.
أوضح الفقيه الأصولي المُجدِّد الشيخ محمدرضا المظفّر ذلك في كتابه أصول الفقه ما نصّه: "ولا شكّ في جواز استعمال اللّفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة المعيّنة، وعلى تقدير عدم القرينة يكون اللّفظ مجملاً، لا دلالة على أحد معانيه"[35].
والقرينة هي كلّ ما من شأنه أن يدلّنا على مُراد المتكلِّم، وبعض القرائن يكون لفظيّاً وبعضه حاليّاً.
التّرادف في ألفاظ القرآن
وبحث الترادف هو أحد المباحث اللّغوية المهمة في فهم القرآن الكريم وتفسيره..
إنّ إحدى معاني التّرادف في اللّغة هو (التّتابع).. ويبحث علماء اللّغة علاقة اللّفظ بالمعنى، لاكتشاف المعاني من خلال الألفاظ الموضوعة لها..
ومن هذه المباحث، نجد مبحث (التّرادف) و(الاشتراك) المهتمّين باكتشاف معاني الألفاظ..
والتّرادف كما يُعرِّفه اللّغويّون هو "ترادف الكلمتين: أن تكونا بمعنى واحد وكذلك ترادف الكلمات"[36].
مثل السّيف، الحسام، المهنّد، الصّارم... إلخ.
وعُرِّف التّرادف في الاصطلاح بأنّه: "اشتراك الألفاظ المتعدِّدة في معنى واحد"[37].
من الواضح لدينا أنّ المشكلة الأساسيّة في الفقه والفكر الإسلامي المستفاد من القرآن الكريم هي مشكلة (التّفسير): تفسير القرآن.. فنصّ القرآن لا نقاش فيه ولا جدال، فإنّه محفوظ ومصون من التحريف.. من الزّيادة والنّقصان، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).
إنّ المرتكز الأساس لتفسير القرآن وتأويله هو فهم معاني الألفاظ.
المنطلق في التّفسير هو تفسير مفردات ألفاظ القرآن.. فيجب أن نفهم معاني الألفاظ لنفهم دلالات النص بجمله ومعانيه المركّبة.. وأنّ فهم الألفاظ يتوقف عليه فهم الأحكام والتشريعات ومفردات العقيدة، ومفاهيم القرآن المتعدِّدة.
ولأهميّة هذا الموضوع، قام العلماء المختصون وأئمّة التفسير بوضع تفاسير خاصة بمفردات الألفاظ، يرجع إليها في فهم معاني الألفاظ الغامضة المعنى، مثل: الاستواء، التدلِّي، الكلالة، القُرء، المباهلة، واللّّمم... إلخ.
ومن المباحث التّفسيريّة المهمة هو تفسير المترادفات.. وفي مجال بحث الترادف.. فإنّه فريقاً من أئمّة اللّغة ينفون وجود المرادف اللغوي المساوي.. كما عُرِّف آنفاً بأنّه "اشتراك الألفاظ المتعدِّدة في معنى واحد".
إنّ الحقيقة التحليلية للألفاظ تُظهِر أنّ ليس في اللّغة العربيّة لفظان أو أكثر لها معنى واحد دون فارق بينهما..
وإلى ذلك يشير أساطين العربيّة مثل الرّاغب الأصفهاني الذي عبّر عن ذلك بقوله: "وأتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل، بكتابٍ يُنبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذكره القلب مرّة والفؤاد مرّة والصدر مرّة. ونحو ذكره تعالى في عقب قصّة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل/ 79)، وفي أخرى: (لقومٍ يَتَفكّرونَ)، وفي أخرى: (لِقوم يَعْلَمَونَ)، وفي أخرى: (لِقُومٍ يَفقَهُونَ)، وفي أخرى: (لأُولي الأبْصار)، وفي أخرى: (لِذِي حِجْر)، وفي أخرى: (لأُولي النُّهى)، ونحو ذلك ممّا يعده من لا يُحقّ الحقّ ويُبطل الباطل أنّه باب واحد، فيُقدر أنّه إذا فسّر الحمد لله بقوله الشكر لله، ولا ريب فيه بلا شك فيه، فقد فسّر القرآن ووفّاه التِّبيان"[38].
ومثل الراغب الأصفهاني في هذه النظرية أبو علي الفارسي، وهو من أساطين اللّغة، قال: "كنتُ في مجلس سيف الدّولة يجلس بالحضرة جماعة من أهل اللّغة، ومنهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسّيف خمسين إسماً، فتبسّم أبو عليّ، وقال: ما أحفظ له إلا إسماً واحداً، وهو السّيف، قال ابن خالويه: فأين المهنّد والصّارم، وكذا وكذا، فقال أبو عليّ: هذه صفات"[39].
وإذا تحقّق لنا أنّ الألفاظ التي نُسمِّيها بالمترادفات لا تكون مساوية بعضها لبعضها في المعنى، ولا معبِّرة تمام التعبير عن المفردة القرآنيّة الأخرى.. فإنّنا بتفسير المفردة بمفردة مرادفة أخرى لا نكشف عن تمام المقصود القرآني..
ولنأخذ أمثلة من التّفسير القاصر عن بيان معنى المفردة القرآنية بالإعتماد على نظريّة التساوي بين معاني الألفاظ في نظرية الترادف، كما ذكرها الرّاغب الأصفهاني.. فهي:
"الرّيب: وفُسِّرت كلمة ريب عند الكثير من المفسِّرين بـ(الشك).. في حين أنّ كلمة (الشّكّ) لا تُساوي كلمة (الرّيب) في معناها..
قال الرّاغب الأصفهاني: فالرّيب: تحصيل القلق وإفادة الاضطراب، والشّكّ: وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا ترجح أحدهما على الآخر، فتقع في الاضطراب والحيرة. فاستعمال الريب في الشّكِّ مجاز من إطلاق اسم المسبِّب وإرادة السّبب.
الإشفاق: الشّفق: اختلاط ضوء النهار بسواد اللّيل عند غروب الشّمس. قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) (الإنشقاق/ 16)، والإشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأنّ المُشْفِق يحبّ المُشفَق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء/ 49)، فإذا عُدِّي بـ(عن)، فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عُدِّي بـ(في) فمعنى العناية في أظهر. قال تعالى: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) (الطور/ 26)، (مُشْفِقُونَ مِنْها) (الشورى/ 18)، (مُشفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا) (الشورى/ 22)، (أأشفَقْتُم أن تُقَدِّموا) (المجادلة/ 13).
الخشية: الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
الخوف: الخوف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة، كما أنّ الرجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة، أو معلومة، ويُضاد الخوف: الأمن، ويُستعمل ذلك في الأمور الدّنيوية والأخرويّة. قال تعالى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء/ 57)، وقال: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) (الأنعام/ 81).
وفُسِّرت كلمة (مسغبة) بـ(المجاعة)، في حين كلمة مسغبة مأخذوة من السّغب وهو الجوع مع التّعب، وقد قيل في العطش مع التّعب".
ومن خلال هذه النّماذج نستطيع أن نفهم قصور التّفسير الذي يعتمد (المرادف) وفقَ هذه النّظريّة دون أن يذكر الفارق بين اللّفظين، أو يشرح المفردة القرآنيّة شرحاً مُعبِّراً عن المعنى المُراد للقرآن.. فالقرآن عندما استعمل هذا اللّفظ دون اللّفظ الآخر، إنّما لقدرة المستعمل على التعبير عن مُراده، دون المرادف المستعمل في التفسير، (فالمترادفان) يشتركان في بعض المعنى ويختلفان في بعض آخر، ولا يتساويان في المعنى.
السيِّاق وبيان المعنى:
ومن القرائن المساعدة على فهم المعنى المُراد من اللّفظ المشترك وتمييزه عن المعاني المحتملة الأخرى هو السِّياق، الذي يتضمّن اللّفظ المشترك..
ويُعرِّفنا السَيِّد محمّد باقر الصّدر بالسياق بقوله: "هو كلّ ما يكشف اللّفظ الذي يزيد فهمه من دوالّ أخرى سواء كانت لفظيّة كالكلمات التي تُشكِّل مع اللّفظ الذي يزيد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حاليّة كالظروف التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع"[40].
وإذاً، فالسِّياق هو أحد وسائل الفهم والتفسير واكتشاف المعاني والدلالات وتمييز المعنى المقصود عن غيره من المعاني المشتركة معه في اللّفظ المشترك.
دور الحقيقة والمجاز في فهم القرآن
النصّ القرآني هو نصّ عربي معجز ببلاغته وبيانه.. وقد استعمل القرآن أرقى أساليب البيان العربي، ومنها استعماله اللّفظ على الحقيقة والمجاز، فكان المجاز القرآني من أهمّ مباحثه اللّغويّة.. لذا درسَ علماء البلاغة هذا الموضوع دراسة تحليليّة وعلميّة مستفيضة..
إنّ الفرز بين الحقيقة والمجاز القرآني من أهمّ القضايا اللّغويّة.. فالتمّييز بينهما يترتّب عليه معرفة الدّلالة القرآنيّة، وما حَوَت من أحكام وفكر وعقيدة وثقافة ومعرفة.. بل تسبّب الخلط بين الحقيقة والمجاز في انحرافات عقيديّة خطيرة، وخلافات في استنباط أحكام فقهيّة خاطئة... مثل لفظ (الكرسي).. في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) (البقرة/ 255).
ولفظ (اليمين) في قوله تعالى: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر/ 67).
ففسّر (الكرسي) و(اليمين) تفسيراً جسميّاً بعد أن فهمه البعض، وهما الظّاهريّة والمجسّمة، بأنّه استعمال حقيقي وليس مجازيّاً، فكان هذا الفهم منحرفاً عن عقيدة التوحيد، وعن تنزيه الله سبحانه عن مشابهة الخلق: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11).
فانتهى هذا الفهم إلى عقيدة التجسيم التي تؤمن بأنّ الله جسماً ويداً، ويجلس على كرسي... إلخ.
وكما تسبّب هذا الفهم الخاطئ في الإنحراف العقيدي، فإنّه تسبّب في الخطأ في استنباط الأحكام الشّرعيّة، عندما فهم البعض من المفسِّرين والفقهاء الاستعمال المجازي للّفظ بأنّه استعمال حقيقي.. ومن أمثلة ذلك، تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43).
فقد فسّر بعض المفسِّرين والفقهاء كلمة: (لَامسْتُم النِّساءَ) الواردة في هذه الآية الكريمة بملامسة جسد الرجل لجسد المرأة.. كلمسها باليد أو تقبيلها.. واعتبره ناقضاً للوضوء ذلك لأنّهم فسّروا الكلمة بمعناها الحقيقي وليس بالمعنى المجازي، في حين فسّرها فريق آخر بالمعنى المجازي من فهمهم (الكناية) في لغة العرب، فقد استعمل القرآن كلمة (الملامسة) كناية عن المواقعة الجنسيّة.. وذلك يعني أنّ لمس الرجل للمرأة لا ينقض الوضوء، ولا يوجب الغُسْل.
ومن المفيد أن نعرض بعضاً من آراء الفريقين كدليل على أهمية (الحقيقة والمجاز) في التفسير، فهي: "اختلف السّلف – رضوان الله عليهم – في المُراد من الملامسة في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، فذهب عليّ وابن عبّاس، والحسن إلى أنّ المُراد به الجُماع وهو مذهب الحنفيّة، وذهب ابن مسعود وابن عمر والشّعبي إلى أنّ المراد به اللّمس باليد وهو مذهب الشافعيّة.
قال ابن جرير الطّبري: "وأولى القولين في ذلك بالصّواب قول مَنْ قال: عنى الله بقوله: (أو لامَسْتُمْ النساء): الجُماع دون غيره من معاني اللّمس، لصحّة الخبر عن رسول الله (ص) أن قبّل بعض نسائه ثمّ صلَى ولم يتوضّأ. ثمّ رُوي عن عائشة، قالت: "كان رسول الله يتوضّأ ثمّ يُقبِّل، ثمّ يصلِّي. وعن عائشة: أنّ رسول الله (ص) قبّل نساءه ثمّ خرج إلى الصلاة، ولم يتوضّأ. قال عروة[41]: قلتُ مَن هي إلا أنتِ؟ فضحكت"[42].
"وقد اختلف الفقهاء في مسِّ المرأة، هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال:
1- فذهب أبو حنيفة إلى أنّ مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواء كان بشهوةٍ أم بغير شهوة.
2- وذهب الشافعي إلى أنّ مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوةٍ أم بغير شهوة.
3- وذهب مالك إلى أنّ المسّ إن كان بشهوةٍ انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوةٍ لم ينتقض"[43].
وقال الطّوسي والطّبرسي، وهما من أعلام المفسِّرين، إنّ المقصود بهذه العبارة: هو الجُماع، وهو مذهب الشيعة الإماميّة.
ومثل كلمة (لامس).. كلمة (مسَّ) التي جاءت في قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 237).
فقد اختلف المفسِّرون والفقهاء في تفسيرها.. هل المقصود بالمسِّ هو المسّ الحقيقيّ، أم المجازي..
فإنّ المعنى الحقيقي لكلمة (مسّ) هو: المسّ المعروف.. كالمسّ باليد.. غير أنّ القرآن استعملها هنا على طريقة العرب المجازيّة استعمالاً مجازيّاً، فكنّى بها عن (الجماع).
فيكون معنى الآية: (مِن قبل أن تُواقِعُوهُنّ، أو تُجامِعُوهُنّ).
ومعنى ذلك أنّ للمراد نصف المهر.. إذا طُلِّقت من قبل أن يواقعها الزوج.. وليس المقصود هنا هو المسّ المعروف.. كمسِّها باليد.
قال الفخر الرّازي: "بيان المقدّمة الثانية: وهي أنّ هاهنا وجد الطّلاق قبل المسيس، هو أنّ المراد بالمسيس: إمّا حقيقة اللمس باليد، أو جُعِل كناية عن الوِقاع، وأيّهما كان فقد وُجِد الطّلاق قبله" يُراجع الرّازي.
ويذهب الشّيخ الطّوسي والطّبرسي في تفسيريهما إلى أنّ المقصود بكلمة (تمسّوهنّ) هو المعنى المجازي.. والمقصود هو الجماعُ والمواقعة، فيكون للمطلّقة قبل المواقعة نصف المهر.
علاقة الإعراب بفهم القرآن وتفسيره
من الواضح أنّ هناك علاقة وثيقة بين فهم المعنى وإعراب الكلمة.. فالكلمة أو الجملة التي تُعرَب حالاً لها معنى، والكلمة التي تُعرَب تمييزاً لها معنى آخر.. والكلمة التي تقع مفعولاً لأجله لها معنى يختلف عن الكلمة التي تقع مفعولاً معه أو فيه أو به، وواو الابتداء يختلف في دلالته عن واو العطف والمعيّة.. وهكذا فإنّ معنى الكلمة في الجملة يرتبط فهمه بوضعه الإعرابي.. كما لإعراب الجمل دلالته على المعنى أيضاً.
ووقع الخلاف في فهم بعض الآيات بسبب الاختلاف في الإعراب.. لذا فإنّ المفسِّر يعتمد في فهمه للمعنى من فهمه للإعراب..
ولأهمِّيّة الإعراب في فهم المعنى.. قام أكابر علماء النّحو بإعراب القرآن.. وحسب مدارسهم النحوية، فإنّنا نجد الإختلاف بينهم في بعض المواقع.. بل نجد المفسِّرين يلجأون أحياناً لإعراب الكلمة أو الجملة مقدّمة لتحديد معناها..
وكمثل على الخلاف في الأحكام بسبب الخلاف في الإعراب، هو الخلاف في إعراب آية الوضوء:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[44] (المائدة/ 6).
اختلفوا في: هل كلمة: (وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ) معطوفة على (أيدِيَكُمْ).. أو معطوفة على (بِرُؤُسِكُمْ)..
فذهب الشّيعة الإماميّة إلى العطف على (الرّؤوس).. لذا يجب مسحها، وذهبت المذاهب السنيّة إلى أنّ العطف على (الأيدي).. لذا يجب غسل الأرجل.. لأنّ المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.
القراءة وفهم المعنى:
من الواضح أنّ هناك قراءات عديدة تُقرأ بها بعض كلمات القرآن؛ كالقراءات السّبع المشهورة بين القرّاء.
وتعريف القراءة القرآنية الأدقّ هو: "النّطق بحروف القرآن كما نطق بها النّبيّ (ص)"[45].
ومن الواضح أنّ الاختلافات في القراءة ينتج عنه أحياناً اختلاف في المعنى.. مثل الاختلاف في قراءة قوله تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).
قال المفسِّر الكبير – الطّبرسي – في مجمع البيان:
"(ولا تقربوهنّ) بالجماع، أو ما دون الازار على الخلاف فيه.. (حتّى يطهرنَ) بالتخفيف، معناه: حتّى ينقطع الدم عنهنّ، وبالتّشديد، معناه: يغتسلنَ، عن الحسن، ويتوضّأن، عن مجاهد وطاووس، وهو مذهبنا".
وكان الطّبرسي قد نقل الاختلاف في قراءة (يطهرنَ).. فقال: قرأ أهل الكوفة، غير حفص: "حتّى يَطَّهَّرْنَ"، بتشديد الطّاء والهاء. والباقون بالتّخفيف..
وهكذا يتّضح أثر القراءة في فهم المعنى، واستنباط الحكم الشّرعي الذي تحمله الكلمة.
أهمِّيّة أسباب النّزول في فهم القرآن
ومن العناصر المعتمدة في تفسير القرآن وبيان معانيه ومقاصده ودلالاته، هو أسباب نزول الآية.. فإنّ بعض الآيات نزلت لأسباب وحوادث وأسئلة من المجتمع المعاصر للنّبيّ (ص)، فكانت بياناً للحكم أو الموقف الذي نزلت بسببه.. ونزلت معظم آيات القرآن ابتداءً وبياناً للدِّين ومناهجه ورسالته في الحياة من غير أن يكون لها سبب نزول.. وأنّ معرفة سبب النّزول تدلّنا على معرفة المقصود القرآني..
فبعض الآيات نزلت تتحدّث عن مواقف بعض المشركين أو المنافقين، أو المؤمنين والمجاهدين، أو تتحدّث عن أزواج النبي وأهل بيته (ع)، ولم تُسمِّ أشخاص الحادثة، غير أنّها سمّت النبي (ص) ولم تُسمِّ نساءه أو أهل بيته، ونزلت فيها آيات تتحدّث عن تلك الحادثة وتُبيِّن الحكم فيها.. مثل:
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)[46] (التحريم/ 3-4).
جاء في أسباب النّزول للواحدي: قوله تعالى: (إنْ تَتُوبا إلى اللهِ) الآية: "أخبرنا أبو منصور المنصوري، أخبرنا أبو الحسن الدّار قطني، أخبرنا الحسن بن إسماعيل، أخبرنا عبدالله بن شبيب، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن عبدالعزيز، قال: وجدتُ في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عبّاس، قال: وجدت حفصة رسول الله (ص) مع أمّ إبراهيم في يوم عائشة، فقالت: لأخبرنها، فقال رسول الله (ص): هي عليَّ حرام إن قربتها، فأخبرت عائشة بذلك، فأعلم الله رسوله ذلك، فعرّف حفصة بعض ما قالت، فقالت له: مَن أخبرك؟ قال: نبّأني العليم الخبير، فآلى رسول الله (ص) من نسائه شهراً، فأنزل الله تبارك وتعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) الآية"[47].
ومن الآيات التي لها سبب نزول مُفسِّر، هي: آية التّطهير، التي تتحدّث عن أهل البيت (ع)، أهل بيت النّبيّ (ص).. فعُرف بذلك ما المقصود بأهل البيت (ع)، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/ 33).
فإنّها نزلت في أهل بيت النّبيّ (ص) (عليّ وفاطمة والحسن والحسين).. ولم تُسمِّهم، فسمّاهم الرّسول (ص) عندما جمعهم في بيت أمّ سلمة (رض)، وجلّلهم بردائه، وقال: "اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عَنْهُم الرِّجس وطهِّرهُم تطهيراً"[48].
ومن الأمثلة على ذلك آية المباهلة:
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[49] (آل عمران/ 61).
فإنّ سبب نزول هذه الآية هو مجيء وفد من نصارى نجران إلى المدينة المنوّرة لمحاججة النّبيّ (ص) والتعرّف على نبوّته.. فأمرهُ الله سبحانه في هذه الآية أن يُباهلهم هو ومَن أشارت إليهم الآية.
فخرجَ رسول الله (ص) يوم المباهلة ومعه: "عليّ وفاطمة والحسن والحسين (ع)"، فعرفَ النّاس أنّ المقصود بأبنائنا: الحسن والحسين، وبنسائنا: فاطمة بنت الرّسول (ص)، وبأنفسنا: النّبيّ (ص) وعليّ (ع).. فخاف النّصارى من الانتقام الإلهي، وتراجعوا عن المباهلة، وصالحوا النّبيّ (ص)، وبقوا على دينهم.
ومن الأمثلة على سبب النزول، ما جاء من آيات في سورة المجادلة:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة/ 1-2).
تتحدّث هذه الآية عن مظاهرة[50] النِّساء وأحكامها في الشّريعة الإسلامية.. بعد أن ظاهرَ أحد الصّحابة أوس بن الصّامت زوجته خولة بنت ثعلبة، فآلمها الموقف، وجاءت إلى النّبيّ (ص) تشكو ما فعل زوجها، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات لبيان أحكام الحادثة.. وهي أحكام عامّة وشاملة في كلِّ زمانٍ ومكان.. فإنّ سبب النّزول لا يقتصر الحكم فيه على الحادثة، بل هو حكم عام وشامل لكلِّ زمانٍ ومكان إلا ما كان مقصوراً على شخص النّبيّ (ص) ذاته أو أشخاص معنيين.
ومن الأمثلة على سبب النّزول، ما نزل من آيات بعد معركة أُحد، تُبيِّن أنّ العقاب يجب أن يكون بالمثل، ولا يزيد على الجريمة، وفيها أيضاً دعوة إلى العفو وترك العقوبة، بعد أن توعّد المسلمون المشركين بالعقاب المضاعَف بسبب قتلهم حمزة، عمّ النّبيّ (ص)، وحين نزلت الآية:
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).
عفى رسول الله (ص) عن قتلة حمزة.. والآية لم ينته حكمها في حدود الحادثة، بل هو مستمرّ على امتداد الزّمان والمكان..
ولأهميِّة هذا الموضوع في التّفسير ومعرفة مقاصد القرآن، ألّف العلماء المختصّون كتباً عديدة في أسباب النّزول، غير أنّ هذه الكتب تأثّرت في بعض مواردها بالرّوايات غير الصحيحة، لذا فإنّنا نحتاج إلى تحقيق وتدقيق الرّواية والتّوثّق من صحّتها قبل العمل بها.
"آخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربّ العالمين"
الفهرس
كلمة المؤسّسة .................................................................................... 1
ماذا تعني ثقافة القرآن؟ ........................................................................ 2
القرآن هو المقياس ............................................................................... 4
1- القرآن هو المقياس لصحّة العقيدة ................................................ 5
2- القرآن هو المقياس للسنّة النّبويّة .................................................. 6
3- القرآن هو مقياس الثقافة والمعارف العامّة ........................................ 7
من أساليب البيان القرآني ...................................................................... 8
1- الخطاب المباشر ........................................................................ 8
2- الأسلوب القصصي ..................................................................... 8
3- الأسلوب الخبري ....................................................................... 9
4- أسلوب المَثَل ............................................................................. 9
5- أسلوب الرّمز والإيحاء ................................................................ 10
6- أسلوب المُقارنة ........................................................................ 10
7- أسلوب الحوار ......................................................................... 11
8- أسلوب الجدل والخصومة بين أهل النار ............................................. 11
9- أسلوب الإجابة على الأسئلة ........................................................... 12
10- مقول القول ....................................................................... 13
11- أسلوب الوصيّة ................................................................... 13
12- أسلوب الدعاء .................................................................... 14
13- أسلوب وصف الغائب وما يُراد تعريفه ........................................... 14
التدرّج في التشريع ............................................................................. 16
العبرة من منهج التدرّج في التغيير ............................................................ 20
تدبر القرآن ووعي معانيه ...................................................................... 22
المصادر الأساسية للتفسير ..................................................................... 26
1- اللّغة ................................................................................... 27
2- تفسير القرآن بالقرآن ................................................................ 28
3- السنّة المُطهّرة ........................................................................ 28
4- العقل .................................................................................. 29
المشترك في ألفاظ القرآن ..................................................................... 31
كيف نميِّز بين المشتركات اللّفظيّة ............................................................. 32
الترادف في ألفاظ القرآن ..................................................................... 33
السياق وبيان المعنى ............................................................................ 35
دور الحقيقة والمجاز في فهم القرآن ........................................................... 36
علاقة الإعراب بفهم القرآن وتفسيره ......................................................... 38
القراءة وفهم المعنى ............................................................................ 38
أهمية أسباب النّزول في فهم القرآن .......................................................... 40
[1]- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي، دار الفكر، بيروت، مادّة "ثقف".
[2]- علم الكلام: هو علم دراسات العقيدة الإسلامية الذي يتكفّل بالاستدلال على مفردات العقيدة الإسلامية والدفاع عنها.
[3]- الكليني، الكافي، ج1، ص92.
[4]- المصدر نفسه.
[5]- بالتخطيط: بالشّكل.
[6]- الكليني، الكافي، ج1، ص100.
[7]- المصدر نفسه، ص104.
[8]- المصدر نفسه، ص62.
[9]- المصدر السابق، ص69.
[10]- المصدر نفسه.
[11]- البهبودي، صحيح الكافي، ج1، ص11
[12]- المصدر نفسه.
[13]- الطّبرسي، مشكاة الأنوار، باب الأخذ بالسنّة.
[14]- التثريب: التقريع واللّوم الشديد على قبيح الفعل.
[15]- الوصيّة: التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ من قولهم: أرض واصية، متّصلة النبات/ معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني.
[16]- الجاهلية: لا يقصد بالجاهلية الفترة التي سبقت الإسلام فقط.. بل ينطبق الوصف الجاهلي على كلِّ مجتمع لا يؤمن بالله ويعمل أعمال الجاهلية ذاتها، بغضّ النظر عن مستواه العلمي والمدني.
[17]- رتّلناهُ ترتيلاً: الترتيل: إتِّساق الشيء وانتظامه على استقامة، مفردات القرآن، الراغب الأصفهاني.
رتّل رتلاً: استوى وانتظم وحسن تأليفه... رتّل الشّيء: نسّقه ونظّمه، المعجم الوسيط.
[18]- المُكْث: هو التوقّف والانتظار من غير عجلة.
[19]- صلِّ عليهم: ادع لهم بقبول زكاتهم والمغفرة لهم.
[20]- الواحدي، أسباب النّزول.
[21]- المكاتبة والتدبير: شرّع الإسلام نظام المكاتبة لتحرير العبيد، والمكاتبة تعني أن يتّفق السيد والعبد على تحرير نفسه، مقابل مبلغ من المال.. ومعنى التدبير: أن يقول السيد لعبده أنتَ حرٌّ دُبُر وفاتي: أي أنتَ حرٌّ بعد وفاتي.
[22]- وفي الرِّقاب: يعني العبيد تُصرف لهم الزكاة لتحرير أنفسهم.
[23]- فكّ رقبة: تحرير رقبة العبد من العبوديّة.
[24]- الجّلد: عقوبة الزاني غير المُحْصَن. أمّا فحكمه الرّجم.. وهناك شرائط وتفصيلات ترتبط باستحقاق العقاب.
[25]- وإذا سألتموهنّ متاعاً: إذا طلبتم منهنّ شيئاً تنتفعون به؛ كالطعام أو الآنية.. "وكلّ ما ينتفع به في البيت فهو متاع"، تراجع مفردات الراغب الأصفهاني.
[26]- مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص124.
[27]- يعني موت الذّبيحة.
[28]- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج14، ص41.
[29]- الطّبرسي، مجمع البيان، تفسير سورة الرّعد، الآية 21.
[30]- يُراجع السيِّد أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص398، ط8.
[31]- الكليني، أصول الكافي، كتاب فضل القرآن.
[32]- ابن فارس، الصاحبي، ص456، يراجع د. إحسان الأمين، منهج النّقد في التفسير، ص143.
[33]- يراجع د. إحسان الأمين، منهج النّقد في التفسير، ص147.
[34]- دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، ص90، ط1، دار الكتاب اللبناني 1978، بيروت.
[35]- محمدرضا المظفّر، أصول الفقه، ج1، 31.
[36]- المعجم الوسيط.
[37]- محمدرضا المظفّر، أصول الفقه، ج1، باب الترادف والتباين.
[38]- معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني.
[39]- يراجع د. صبحي الصالح، دراسات في فقه اللّغة، ص296، ط9.
[40]- محمدباقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج1، مبحث حجِّية الظّهور.
[41]- عروة بن الزبير بن العوّام، هو ابن أخت عائشة (اُمّه أسماء بنت أبي بكر).
[42]- الطّبري، جامع البيان، ج5، ص105.
[43]- محمدعلي الصابوني، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن، ج1، ص487.
[44]- يمكن القول أنّ المسلمين ليسوا بحاجة إلى هذا النِّزاع في إعراب آية الوضوء.. فإنّ الرسول (ص) كان يتوضّأ أمام المسلمين، والمسلمون يقتدرون به لسنين عديدة، ويتوضّأون كما يتوضّأ.
[45]- الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي، القراءات القرآنية، ص56، دار القلم، بيروت.
[46]- الواحدي، أسباب النزول، ص248.
[47]- الواحدي، أسباب النزول، ص292-293.
[48]- صحيح الترمذي، ج5، ح3259، تفسير الطبري، ج22، مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص259.
[49]- لمزيد من المعلومات، يراجع تفسير الزمخشرين وتفسير الرازي وتفسير الطّبري، ويراجع صحيح مسلم والترمذي.
[50]- الظِّهار: هو لون من ألوان الطّلاق في الجاهلية.. وصيغته عندهم هو أن يقول الرجل لزوجته: "أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أمِّي".. فحرّم الإسلام هذا الطّلاق.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق